متى يصبح الهوس بالتقنية الرقمية مشكلة صحية خطيرة؟
مانفريد كيتس دو فرايس
حسّنت التقنية الرقمية حياتنا بشكل كبير داخل أماكن العمل وخارجها على حدّ سواء، غير أن تأثيرها ليس دائمًا إيجابيًا. عندما كنت أدير ورشة عمل مؤخرًا، اضطر أحد المشاركين إلى الخروج بانتظام من الغرفة. ظننت للوهلة الأولى أنه يعاني ضعفًا في السيطرة على المثانة أو اضطرابًا في المعدة. اكتشفت لاحقًا أنه يعاني اضطراب الإدمان الرقمي، أو بالعبارات العادية، عدم القدرة على التوقف عن النظر إلى الأيفون أو الأيباد. اتّسمت ورشة العمل بطابع تأملي وكنت قد طلبت عدم استخدام الأجهزة الإلكترونية في الصف. غير أن صاحبنا كان عاجزًا عن انتظار الاستراحة، وكان يغادر الغرفة كلما شعر بضرورة التحقق من الرسائل التي ترده والرد عليها.
بالحديث معه، عرفت أنه يقضي وقتًا طويلاً على شبكات التواصل الاجتماعي، والألعاب على الإنترنت، ومواقع المزايدة على الإنترنت. إضافة إلى ذلك، كان مدمنًا على مشاهدة مقاطع فيديو على اليوتيوب. عندما سُئل عن سبب قضائه كل هذا الوقت على الشبكات الرقمية، قال: إن كونه «متصلاً» بالإنترنت يضفي عليه تأثيرًا مريحًا. لكن كحال كثير من المصابين باضطراب الإدمان الرقمي، أصبح استخدام صاحبنا المفرط للحاسوب متعذر السيطرة عليه ويستحوذ بجدية على حياته اليومية.
الإدمان الرقمي | تشبه أعراض اضطراب الإدمان الرقمي بأشكال كثيرة اضطرابات السيطرة على الدوافع أو اضطرابات الوسواس القهري. بالرغم من كون هذا الاضطراب منتشرًا في المجتمع، وناشئًا كظاهرة إشكالية، إلا أنه ما زال بحاجة إلى مقدار كبير من البحوث. تفشل الدراسات حول هذا الاضطراب في تحديد ما إذا كان اضطراب الإدمان الرقمي اضطرابًا بحدّ ذاته، أو أحد أعراض الحالات المرضية الأخرى مثل اضطراب السيطرة على الدوافع، أو اضطراب الوسواس القهري. وأيًا كانت طبيعته، فهو يعكس نمطًا سلوكيًا قهريًا قادرًا على السيطرة بالكامل على حياة المدمن.
مع أن فكرة الإدمان على الإنترنت مثيرة للجدل ولم يُعترف بها رسميًا بعد كاضطراب عقلي، فإنها تتحول إلى تهديد حقيقي للصحة، وحان الوقت للاعتراف به إدمانًا سلوكيًا من طبيعة مستقلة ومختلفة. أظهرت الاستطلاعات في الولايات المتحدة وأوروبا الوصول إلى معدلات انتشار مقلقة، تراوح بين %1.5 و%8.2 لدى عامة السكان. حتى إن التقديرات أعلى في آسيا حيث %30 أو أكثر من السكان يختبرون الاستخدام الإشكالي للإنترنت. (تُفسّر الاختلافات المتغيرة الواسعة بين النسب المئوية بواقع عدم وجود معايير موحدة لقياس هذا الإدمان حتى الآن). للتوضيح، لا بد من الإشارة إلى أن استخدام الإنترنت بشكل مكثف لا يعني أن المرء مدمن أو يعاني اضطراب الإدمان الرقمي، فهو يتحول فقط إلى اضطراب حقيقي عندما يبدأ بالتأثير جديًا على التوظيف الصحي للحياة اليومية.
يقوم التوظيف الصحي على فرضية التوازن. يمكن مقارنة الإدمان الرقمي بالإدمان على الطعام أو المخدرات مثلاً من ناحية طبيعته الاستحواذية. وكما الحال مع أنواع الإدمان كافة، فإنها تؤثر في الدماغ، وتحديدًا في صعيد التواصل بين الخلايا وفي مناطق الدماغ التي تسيطر على الانتباه والتصرفات ومعالجة العواطف. يدفع الإدمان الرقمي إلى إفراز الدوبامين الذي يوفر «نشوة» مؤقتة يصبح الفرد مدمنًا عليها. تتفاوت مستويات الدوبامين والسيروتونين (ناقل عصبي آخر يساعد على تنظيم المزاج) من شخص إلى آخر. يسعنا الافتراض أن الأفراد الذين يعانون إدمانًا رقميًا يمتلكون عددًا أقل من مستقبلات الدوبامين في مناطق معينة من الدماغ، أو أنواعًا أخرى من الضعف في عمل الدوبامين. ومن ثم، يختبرون صعوبة في اختبار مستويات الاستمتاع العادية في الأنشطة التي يجدها الناس مجزية عادة.
لزيادة المتعة، يبحث المصابون باضطراب الإدمان الرقمي إلى مشاركة أعلى من المتوسط في الأنشطة الرقمية التي تحفّز الزيادة في إفراز الدوبامين، وتقدم إليهم مزيدًا من المكاسب إنما تخلق حالة من الإدمان في الوقت نفسه.
أي نوع من الأشخاص هم أكثر عرضة للإدمان الرقمي؟ وما هي الأعراض التي يظهرها المصابون باضطراب الإدمان الرقمي؟
يشكل الشعور بالإجهاد أو اختبار القلق والاكتئاب عاملاً مساعدًا على تطوير الإدمان. إضافة إلى ذلك، يختبر في أغلب الأحيان أولئك الذين يعانون اضطراب الإدمان الرقمي أنواعًا أخرى من الإدمان مثل الإدمان على الكحول، والمخدرات، والجنس، وألعاب الميسر. كما يبدو أن الأفراد الذين يعانون مشاكل في علاقاتهم مع الآخرين أكثر عرضة لتطوير الإدمان على الإنترنت، ويلجؤون إلى «التواصل» الرقمي لتعزيز معنوياتهم والفرار من المشاكل. أما الوقت المخصص للتواصل مع الأفراد على الإنترنت فيصبح على حساب الوقت الذي يقضونه مع الأفراد الحقيقيين في حياتهم. من خلال الارتباط بعالم افتراضي خيالي، فإنهم يجدون بديلاً لتعقيدات العلاقات البشرية في الحياة الحقيقية.
حتى إن بعض هؤلاء المدمنين يبنون حياة سرية، فيبتكرون أشخاصًا بديلين على الإنترنت في محاولة لتغطية السلوك البغيض على الإنترنت. ويصبح عدد كبير منهم (وصاحبنا خير دليل على ذلك) عصبيين ومتقلبي المزاج، وقلقين، ومكتئبين، وسريعي الانفعال إذا ما مُنعوا عن أنشطتهم الرقمية. وقد يعاني مصابون آخرون باضطراب الإدمان الرقمي أعراضًا جسدية مثل الاضطرابات في المعدة، والصداع، واضطرابات الأكل، وآلام الظهر، وقلة النظافة الشخصية، ومتلازمة النفق الرسغي، وآلام الرقبة، وجفاف العينين، ومشاكل الرؤية الأخرى، والاضطرابات في النوم. وما يثير الاهتمام عند سؤال هؤلاء المدمنين عن انخراطهم في مجال الإنترنت، إخفاؤهم مدى مشاركتهم فيه. لكن في سياق حاجتهم إلى «التواصل» مع الغرباء، يهملون التزاماتهم العائلية، ويدمرون حياتهم الاجتماعية، ويفوتون فرص عمل، وفرصًا تعليمية ومهنية مهمة.
إيجاد التوازن | للأسف، «علاج» هذا الإدمان، كما هو الحال مع معظم أنواع الإدمان الأخرى، مهمة شاقة. لا يتسم العلاج ببساطته بما أن معظمنا مضطر إلى استخدام الإنترنت قليلاً (أو كثيرًا) على أساس يومي. بهذه الطريقة، يُقارن اضطراب الإدمان الرقمي بالإدمان على الطعام حيث يستحيل التخلي عن مسبب الإدمان ودون مساعدة. وعوضًا عن ذلك، يجدر بالمدمنين أن يتعلموا أنماط الأكل الصحية، وكيفية ابتكار توازن أفضل. أشار بعض المتخصصين إلى أن الأدوية قد تكون فعّالة في معالجة اضطراب الإدمان الرقمي. ويقوم برهانهم على أن المعرضين لهذه الحالة يعانون على الأرجح القلق والاكتئاب. وإن كانت هذه هي الحالة (من منظور العلاج النفسي)، فإن استخدام الأدوية المكافحة للقلق والاكتئاب حل واعد. من وجهة نظر نفسية، فإن أشكال العلاج الإدراكية السلوكية هي علاجات من اختيار خاص. كما يتسنى للمدمنين تعلّم كيفية تبديل الأفكار والأنماط السلوكية المدمرة التي تزعجهم بأخرى أكثر صحية وإنتاجية. إضافة إلى ذلك، برهن التدريب على الحد من الإجهاد القائم على الذهن والعلاج النفسي الجماعي أنه مفيد. ويقترح آخرون اعتماد نهج علاجي متعدد الوسائط، وتنفيذ أنواع مختلفة ومتعددة من العلاجات (بالأدوية، وعلاجات نفسية فردية وجماعية، والمشورة الأسرية) في آن معًا.
سبق ورأينا كيف تحول الانشغال بالإنترنت إلى المبدأ المنظم لحياة بعض الأفراد. غير أنه من المهم معرفة أن سلوكهم هو إشارة تحذيرية: يرمز إلى نوع معين من الألم الذي يستجدي الفهم. من خلال مساعدة الذين يعانون اضطراب الإدمان الرقمي على فهم طبيعة ألمهم، يمكننا مساعدتهم على الشفاء والتعافي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق